محمد بن عبد الرحمن مولي طلحة
288. يحي بن معين ليس به بأس
تهذيب التهذيب
الجرح والتعديل 3-2-318
تهذيب التهذيب 9-300
حمل كتاب
تاريخ ابن معين ( رواية الدوري + رواية الدارمي ) دار المأمون للتراث
ما معني قول بن مغين ليس به بأس
ادعى بعض المعاصرين أن ابن معين إذا قال في الراوي (لا بأس به) أو (ليس به بأس) فهو ثقة عنده؛ وتبين لي بعد دراسة المسألة أن الحقيقة غير ذلك.
أما الذي ادعى ذلك فالمحققان البارعان، الشيخ شعيب الأرنؤوط، والدكتور بشار عواد معروف؛ فقد قالا في (تحرير التقريب) (1/41): (وقوله [يريدان ابن معين] في الراوي: لا بأس به أو ليس به بأس فهو ثقة عنده).
وقالا فيه أيضاً (1/41): (وقوله [يريدان ابن معين] في الراوي: لا بأس به، أو ليس به بأس، فهو ثقة عنده).
وقالا (2/68): (إن لا بأس به من رسم ابن معين في الثقات).
وقالا (2/191) ان (ليس به بأس) عبارة توثيقية عند ابن معين.
أقول: هذا الإطلاق ينبغي أن يعاد النظر فيه.
وأصل هذه الدعوى كلمة لابن معين نفسه أخرجها عنه الخطيب في (الكفاية) (ص22) وابن شاهين في (الضعفاء) (ص42) من طريق أحمد بن أبي خيثمة قال: (قلت ليحيى بن معين: إنك تقول: فلان ليس به بأس وفلان ضعيف؟ قال: إذا قلت لك: ليس به بأس، فهو ثقة، وإذا قلت لك: هو ضعيف، فليس هو بثقة، لا يكتب حديثه). انتهى.
وهذا الجواب يحتمل ثلاثة معان:
الأول منها: ما ذكراه وسبقهما إليه بعض المتأخرين ومنهم ابن حجر في مقدمة (الفتح) (ص633) في ترجمة يونس بن أبي الفرات؛ ولكن عمل ابن حجر في التقريب وغيره جرى في الغالب على خلاف هذا المذهب، وفاقاً لمذهب الجمهور.
والثاني: أن لفظة (ليس به بأس) لها عند ابن معين رتبة متوسطة بين رتبتي لفظة (ثقة) ولفظة (لا بأس به) عند الجمهور.
وهذا التفسير لعله معنى كلام العراقي إذ قال في (شرح ألفيته) (2/7-8):
(لم يقل ابن معين إن قولي (ليس به بأس) كقولي (ثقة)، حتى يلزم منه التساوي بين اللفظين؛ إنما قال إن من قال فيه هذا فهو ثقة؛ وللثقة مراتب، فالتعبير عنه بقولهم (ثقة) أرفع من التعبير عنه بأنه (لا بأس به)، وإن اشتركا في مطلق الثقة، والله اعلم.
وفي كلام دحيم ما يوافق كلام ابن معين، فإن أبا زرعة الدمشقي قال: قلت لعبد الرحمن بن إبراهيم [هو دحيم]: ما تقول في علي بن حوشب الفزاري؟ قال: لا بأس به؛ قال قلت: ولِم لا تقول (ثقة) ولا نعلم إلا خيراً؟ قال: قد قلت لك إنه ثقة). انتهى.
وقال السخاوي في (فتح المغيث) (1/368) عقب كلام في هذه النقطة: (وأجاب الشارح [يعني العراقي] أيضاً بما حاصله أن ابن معين لم يصرح بالتسوية بينهما، بل أشركهما في مطلق الثقة، وذلك لا يمنع ما تقدم، وهو حسن، وكذا أيده غيره بأنهم قد يطلقون الوصف بالثقة على من كان مقبولاً ولو لم يكن ضابطاً، فقول ابن معين هنا يتمشى عليه).
وانظر (قواعد التهانوي) (ص250-251).
والثالث: أن (ليس به بأس) تعني عند ابن معين إذا قالها في الراوي ما يعنيه بها سائر النقاد، واختيار هذا الوجه لا يقتضي أكثر من حمل جواب ابن معين هذا لأحمد بن أبي خيثمة على غير ظاهره المتبادر.
وما ذلك بغريب ولا ممتنع، فابن أبي خيثمة يَظْهَر أنه ما كان يعرف حق المعرفة معنى هاتين اللفظتين عند ابن معين، أو ما كان يعرف حق المعرفة الفرقَ بينهما عند ابن معين، فوجه إليه هذا السؤال، فاستعمل ابن معين في جوابه كلمة معروفة المعنى عند السائل وهي كلمة ثقة، ومراده بها في هذا المقام القبول والاحتجاج، وتوسع في استعمال هذه الكلمة، وسوغ ذلك التوسع عنده أمور:
منها أن ذلك يقع من المحدثين أحياناً كما ورد في كلام السخاوي المنقول قبل قليل.
ومنها ما ذكرته من حاجة السائل إلى كلمة واضحة المعنى، بسبب التباس الأمر عليه أو غموضه.
ومنها أن السائل سأل عنها مقرونة بلفظة ضعيف، وهذا القرْن له شأن؛ وللإمام الباجي والعلامة المعلمي كلام مهم في مراعاة النقاد أحوال السائلين وصفاتهم ومقاصدهم وهيئة السؤال والمجلس وما إلى ذلك مما يكون له أثر في جواب المسؤول للسائل؛ وقد نقلت كلامهما في غير هذا الموضع، في بعض أبحاثي.
وهذا المعنى الأخير هو المختار لأمور:
منها أنه هو الموافق للمشهور الذي عليه العمل، من معنى كلمة (لا بأس به) عند ابن معين خاصة، وعند المحدثين عامة؛ بخلاف القول الأول فيظهر أنه انفرد بنقله عن ابن معين أحمد بن أبي خيثمة؛ ولو كان معروفاً عنه لاشتهر عنه عند تلامذته وهم عشرات من الحفاظ النقاد وهم الذين جمعوا علمه ونشروه، ولاشتهر كذلك عند تلامذتهم وهم أكثر منهم، ولكن شيئاً من ذلك لم يكن؛ أي بحسب علمي!!
ومنها أن ابن معين ليس عالماً خاملاً مغموراً لتخفى مصطلحاته ومعانيها، ولكنه كما وصفه ابن رجب في (شرح علل الترمذي) (1/488): (الإمام المطلق في الجرح والتعديل، وإلى قوله في ذلك يرجع الناس، وعلى كلامه فيه يعولون)، قلت: ومنه ومن شيوخه وأقرانه وتلامذتهم أخذ الناس المصطلحات واستعاروا القواعد.
ومنها دلالة الاستقراء على ذلك، فإني استقرأت طائفة من الكتب لمعرفة حقيقة هذا الادعاء ومنها بعض مجلدات تهذيب التهذيب ودرست أقوال ابن معين في تلك الكتب وقارنتها بأقوال العلماء فازددت يقيناً باختلاف معنى الكلمتين عند ابن معين.
ومنها أنه قد ورد في أجوبة ابن معين ما يدل على تفريقه بينهما، وهذه أمثلة من ذلك:
1- قال عبد الله بن أحمد في (العلل) (2/115): (سألت يحيى قلت: التيمي عن الحضرمي؟ فقال: شيخ روى عنه معتمر عن أبيه عن الحضرمي، قلت [لـِ]يحيى: ثقة؟ قال:ليس به بأس).
فانظر كيف عدل ابن معين عن الإجابة بالإيجاب، كقوله (نعم) أو نحوها، إلى قوله (ليس به بأس)؛ أكان ليفعل ذلك بلا مقصد؟!
2-قال عثمان بن سعيد الدارمي في تأريخه عن يحيى بن معين (ص173): (وسألته عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه كيف حديثهما؟ فقال: ليس به بأس. قلت: هو أحب إليك أو سعيد المقبري؟ فقال: سعيد أوثق، والعلاء ضعيف).
3-قال الدارمي في هذا التاريخ أيضاً (رقم 334): (وسألته عن الربيع بن صبيح؟ فقال: ليس به بأس، وكأنه لم يُطْرِه!!! فقلت: هو أحب إليك أو المبارك؟ فقال: ما أقربهما، قال أبو سعيد [الدارمي]: المبارك عندي فوقه فيما سمعه من الحسن، إلا أنه ربما دلس).
أقول: المبارك ـ وهو ابن فضالة ـ ضعيف يعتبر به ويدلس الإسناد ونسب إلى تدليس التسوية.
4-وقال فيه أيضاً (ص92): (سألته عن مندل بن علي؟ فقال: ليس به بأس، قلت: وأخوه حبان بن علي؟ فقال: صدوق، قلت: أيهما أحب إليك؟ فقال: كلاهما وتمراً، كأنه يضعفهما).
فانظر إلى قول ابن معين هذه الكلمة المفيدة للتضعيف فيمن قال فيه أولاً: (ليس به بأس)، وانظر تفسير عثمان بن سعيد، وهو من أعرف الناس باصطلاحات ابن معين، لقوله (كلاهما وتمراً) مع عدم إيراده شيئاً يشير به إلى شيء من تناقض بين كلمتي ابن معين في مندل بن علي!.
ومن المعلوم البين أنه يبعد جداً أن يسأل ابن معين عن راو فيوثقه توثيقاً تاماً ثم يعود ابن معين نفسه فيلحق بذلك التوثيق التام ما يناقضه، فيذكر فيه ما يدل على ضعف ذلك الثقة!. وفي هذا دليل على نزول رتبة لفظة (لا بأس به) عند ابن معين عن رتبة لفظة (ثقة) عنده.
ثم انه قد ثبت عندي أن ابن معين كان يتساهل في أحيان كثيرة في إطلاق لفظة (ثقة) على الراوي الموصوف بأنه (لا بأس به) عند ابن معين نفسه في رواية أو روايات أخرى، أو الموصوف بذلك عند الجمهور، أو الموصوف به على التحقيق.
ودعوى أن ابن معين يتسهل في إطلاق كلمة ثقة على الصدوقين رواة الأحاديث الحسنة أي الذين يقال فيهم أيضاً – كما هو معلوم – : (لا بأس بهم)، أقرب من دعوى أن ابن معين يتشدد فيطلق كلمة (لا بأس به) على الثقات رواة الأحاديث الصحيحة.
ومما يريب أيضاً في هذا التساوي المدّعَى أمران:
الأول: هو أن ابن معين إن لم يكن أكثر النقاد المجتهدين كلاماً في الرواة فهو بلا ريب من أكثرهم في ذلك، ومعلوم أن نسبة رواة الحديث الحسن بين مجموع الرواة نسبة كبيرة عالية، وقد علمت بالاستقراء أن ابن معين قلما يستعمل في وصف هؤلاء أصحاب هذه المرتبة ما عدا كلمة (لا بأس به) من مصطلحاتها الأخرى المعروفة المستعملة عند سائر النقاد، فإذا قيل إن كلمة (لا بأس به) كان معناها عند ابن معين التوثيق المطلق أي انه يقولها في رواة الأحاديث الصحيحة لا الحسنة، فإنه يلزم من ذلك أن رواة الأحاديث الحسنة عند ابن معين نسبة نادرة الوجود أو أنه متساهل جداً في إطلاق التوثيق، أو أنه كان لا يفرق بين الصحيح والحسن، وكل واحد من هذه اللوازم الثلاثة فيه نظر، بل لا يصح، فلا يصح ما استلزمه.
والثاني: كان ابن معين يقرن أحياناً بين كلمة (ليس به بأس) وكلمة (يكتب حديثه) وظاهر أنه لا يحسن من أحد أن يقرن بين لفظتي (ثقة) و (يكتب حديثه) إلا إذا أراد بكلمة (ثقة) العدالة مجردة، وهذا نادر وهو خلاف الأصل؛ قال ابن عدي في (الكامل) (1/243): (حدثنا علي بن أحمد بن سليمان حدثنا أحمد بن سعد بن أبي مريم قال سمعت يحيى بن معين يقول: إبراهيم بن هارون ليس به بأس يكتب حديثه؛ وقول يحيى بن معين (يكتب حديثه) معناه أنه من جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم، ولم أر لإبراهيم بن هارون هذا عندي إلا الشيء اليسير فلم أذكره ها هنا).
تكميل: تقدم ذكر جواب دحيم لأبي زرعة الدمشقي، وقد قال السخاوي في (فتح المغيث) (1/367-367) بعد أن ذكر أن صنيع المحدثين رفع مرتبة ثقة فوق مرتبة لا بأس به: (ولو لم يكن صنيعهم كذلك ما سأل أبو زرعة، لكن جواب دحيم موافق لابن معين فكأنه اختياره أيضاً).
وأقول: يقال هنا نحو ما قيل في حق ابن معين في هذه القضية، ويزاد على ذلك أن دحيماً قد ثبت تساهله في توثيق الشاميين، وأكثر المتساهلين لا يفرقون في كثير من الأحايين بين راوي الحديث الصحيح وراوي الحديث الحسن، ولا بين الثقة والصدوق، فلعل دحيماً كان كذلك.
هذا الذي انتهى إليه تحقيقي في هذه المسألة، أعني معنى (لا بأس به) عند ابن معين؛ والموضع يحتمل مزيداً من البحث، والله أعلم.
ملتقي اهل الحديث
288. يحي بن معين ليس به بأس
تهذيب التهذيب
الجرح والتعديل 3-2-318
تهذيب التهذيب 9-300
حمل كتاب
تاريخ ابن معين ( رواية الدوري + رواية الدارمي ) دار المأمون للتراث
ما معني قول بن مغين ليس به بأس
ادعى بعض المعاصرين أن ابن معين إذا قال في الراوي (لا بأس به) أو (ليس به بأس) فهو ثقة عنده؛ وتبين لي بعد دراسة المسألة أن الحقيقة غير ذلك.
أما الذي ادعى ذلك فالمحققان البارعان، الشيخ شعيب الأرنؤوط، والدكتور بشار عواد معروف؛ فقد قالا في (تحرير التقريب) (1/41): (وقوله [يريدان ابن معين] في الراوي: لا بأس به أو ليس به بأس فهو ثقة عنده).
وقالا فيه أيضاً (1/41): (وقوله [يريدان ابن معين] في الراوي: لا بأس به، أو ليس به بأس، فهو ثقة عنده).
وقالا (2/68): (إن لا بأس به من رسم ابن معين في الثقات).
وقالا (2/191) ان (ليس به بأس) عبارة توثيقية عند ابن معين.
أقول: هذا الإطلاق ينبغي أن يعاد النظر فيه.
وأصل هذه الدعوى كلمة لابن معين نفسه أخرجها عنه الخطيب في (الكفاية) (ص22) وابن شاهين في (الضعفاء) (ص42) من طريق أحمد بن أبي خيثمة قال: (قلت ليحيى بن معين: إنك تقول: فلان ليس به بأس وفلان ضعيف؟ قال: إذا قلت لك: ليس به بأس، فهو ثقة، وإذا قلت لك: هو ضعيف، فليس هو بثقة، لا يكتب حديثه). انتهى.
وهذا الجواب يحتمل ثلاثة معان:
الأول منها: ما ذكراه وسبقهما إليه بعض المتأخرين ومنهم ابن حجر في مقدمة (الفتح) (ص633) في ترجمة يونس بن أبي الفرات؛ ولكن عمل ابن حجر في التقريب وغيره جرى في الغالب على خلاف هذا المذهب، وفاقاً لمذهب الجمهور.
والثاني: أن لفظة (ليس به بأس) لها عند ابن معين رتبة متوسطة بين رتبتي لفظة (ثقة) ولفظة (لا بأس به) عند الجمهور.
وهذا التفسير لعله معنى كلام العراقي إذ قال في (شرح ألفيته) (2/7-8):
(لم يقل ابن معين إن قولي (ليس به بأس) كقولي (ثقة)، حتى يلزم منه التساوي بين اللفظين؛ إنما قال إن من قال فيه هذا فهو ثقة؛ وللثقة مراتب، فالتعبير عنه بقولهم (ثقة) أرفع من التعبير عنه بأنه (لا بأس به)، وإن اشتركا في مطلق الثقة، والله اعلم.
وفي كلام دحيم ما يوافق كلام ابن معين، فإن أبا زرعة الدمشقي قال: قلت لعبد الرحمن بن إبراهيم [هو دحيم]: ما تقول في علي بن حوشب الفزاري؟ قال: لا بأس به؛ قال قلت: ولِم لا تقول (ثقة) ولا نعلم إلا خيراً؟ قال: قد قلت لك إنه ثقة). انتهى.
وقال السخاوي في (فتح المغيث) (1/368) عقب كلام في هذه النقطة: (وأجاب الشارح [يعني العراقي] أيضاً بما حاصله أن ابن معين لم يصرح بالتسوية بينهما، بل أشركهما في مطلق الثقة، وذلك لا يمنع ما تقدم، وهو حسن، وكذا أيده غيره بأنهم قد يطلقون الوصف بالثقة على من كان مقبولاً ولو لم يكن ضابطاً، فقول ابن معين هنا يتمشى عليه).
وانظر (قواعد التهانوي) (ص250-251).
والثالث: أن (ليس به بأس) تعني عند ابن معين إذا قالها في الراوي ما يعنيه بها سائر النقاد، واختيار هذا الوجه لا يقتضي أكثر من حمل جواب ابن معين هذا لأحمد بن أبي خيثمة على غير ظاهره المتبادر.
وما ذلك بغريب ولا ممتنع، فابن أبي خيثمة يَظْهَر أنه ما كان يعرف حق المعرفة معنى هاتين اللفظتين عند ابن معين، أو ما كان يعرف حق المعرفة الفرقَ بينهما عند ابن معين، فوجه إليه هذا السؤال، فاستعمل ابن معين في جوابه كلمة معروفة المعنى عند السائل وهي كلمة ثقة، ومراده بها في هذا المقام القبول والاحتجاج، وتوسع في استعمال هذه الكلمة، وسوغ ذلك التوسع عنده أمور:
منها أن ذلك يقع من المحدثين أحياناً كما ورد في كلام السخاوي المنقول قبل قليل.
ومنها ما ذكرته من حاجة السائل إلى كلمة واضحة المعنى، بسبب التباس الأمر عليه أو غموضه.
ومنها أن السائل سأل عنها مقرونة بلفظة ضعيف، وهذا القرْن له شأن؛ وللإمام الباجي والعلامة المعلمي كلام مهم في مراعاة النقاد أحوال السائلين وصفاتهم ومقاصدهم وهيئة السؤال والمجلس وما إلى ذلك مما يكون له أثر في جواب المسؤول للسائل؛ وقد نقلت كلامهما في غير هذا الموضع، في بعض أبحاثي.
وهذا المعنى الأخير هو المختار لأمور:
منها أنه هو الموافق للمشهور الذي عليه العمل، من معنى كلمة (لا بأس به) عند ابن معين خاصة، وعند المحدثين عامة؛ بخلاف القول الأول فيظهر أنه انفرد بنقله عن ابن معين أحمد بن أبي خيثمة؛ ولو كان معروفاً عنه لاشتهر عنه عند تلامذته وهم عشرات من الحفاظ النقاد وهم الذين جمعوا علمه ونشروه، ولاشتهر كذلك عند تلامذتهم وهم أكثر منهم، ولكن شيئاً من ذلك لم يكن؛ أي بحسب علمي!!
ومنها أن ابن معين ليس عالماً خاملاً مغموراً لتخفى مصطلحاته ومعانيها، ولكنه كما وصفه ابن رجب في (شرح علل الترمذي) (1/488): (الإمام المطلق في الجرح والتعديل، وإلى قوله في ذلك يرجع الناس، وعلى كلامه فيه يعولون)، قلت: ومنه ومن شيوخه وأقرانه وتلامذتهم أخذ الناس المصطلحات واستعاروا القواعد.
ومنها دلالة الاستقراء على ذلك، فإني استقرأت طائفة من الكتب لمعرفة حقيقة هذا الادعاء ومنها بعض مجلدات تهذيب التهذيب ودرست أقوال ابن معين في تلك الكتب وقارنتها بأقوال العلماء فازددت يقيناً باختلاف معنى الكلمتين عند ابن معين.
ومنها أنه قد ورد في أجوبة ابن معين ما يدل على تفريقه بينهما، وهذه أمثلة من ذلك:
1- قال عبد الله بن أحمد في (العلل) (2/115): (سألت يحيى قلت: التيمي عن الحضرمي؟ فقال: شيخ روى عنه معتمر عن أبيه عن الحضرمي، قلت [لـِ]يحيى: ثقة؟ قال:ليس به بأس).
فانظر كيف عدل ابن معين عن الإجابة بالإيجاب، كقوله (نعم) أو نحوها، إلى قوله (ليس به بأس)؛ أكان ليفعل ذلك بلا مقصد؟!
2-قال عثمان بن سعيد الدارمي في تأريخه عن يحيى بن معين (ص173): (وسألته عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه كيف حديثهما؟ فقال: ليس به بأس. قلت: هو أحب إليك أو سعيد المقبري؟ فقال: سعيد أوثق، والعلاء ضعيف).
3-قال الدارمي في هذا التاريخ أيضاً (رقم 334): (وسألته عن الربيع بن صبيح؟ فقال: ليس به بأس، وكأنه لم يُطْرِه!!! فقلت: هو أحب إليك أو المبارك؟ فقال: ما أقربهما، قال أبو سعيد [الدارمي]: المبارك عندي فوقه فيما سمعه من الحسن، إلا أنه ربما دلس).
أقول: المبارك ـ وهو ابن فضالة ـ ضعيف يعتبر به ويدلس الإسناد ونسب إلى تدليس التسوية.
4-وقال فيه أيضاً (ص92): (سألته عن مندل بن علي؟ فقال: ليس به بأس، قلت: وأخوه حبان بن علي؟ فقال: صدوق، قلت: أيهما أحب إليك؟ فقال: كلاهما وتمراً، كأنه يضعفهما).
فانظر إلى قول ابن معين هذه الكلمة المفيدة للتضعيف فيمن قال فيه أولاً: (ليس به بأس)، وانظر تفسير عثمان بن سعيد، وهو من أعرف الناس باصطلاحات ابن معين، لقوله (كلاهما وتمراً) مع عدم إيراده شيئاً يشير به إلى شيء من تناقض بين كلمتي ابن معين في مندل بن علي!.
ومن المعلوم البين أنه يبعد جداً أن يسأل ابن معين عن راو فيوثقه توثيقاً تاماً ثم يعود ابن معين نفسه فيلحق بذلك التوثيق التام ما يناقضه، فيذكر فيه ما يدل على ضعف ذلك الثقة!. وفي هذا دليل على نزول رتبة لفظة (لا بأس به) عند ابن معين عن رتبة لفظة (ثقة) عنده.
ثم انه قد ثبت عندي أن ابن معين كان يتساهل في أحيان كثيرة في إطلاق لفظة (ثقة) على الراوي الموصوف بأنه (لا بأس به) عند ابن معين نفسه في رواية أو روايات أخرى، أو الموصوف بذلك عند الجمهور، أو الموصوف به على التحقيق.
ودعوى أن ابن معين يتسهل في إطلاق كلمة ثقة على الصدوقين رواة الأحاديث الحسنة أي الذين يقال فيهم أيضاً – كما هو معلوم – : (لا بأس بهم)، أقرب من دعوى أن ابن معين يتشدد فيطلق كلمة (لا بأس به) على الثقات رواة الأحاديث الصحيحة.
ومما يريب أيضاً في هذا التساوي المدّعَى أمران:
الأول: هو أن ابن معين إن لم يكن أكثر النقاد المجتهدين كلاماً في الرواة فهو بلا ريب من أكثرهم في ذلك، ومعلوم أن نسبة رواة الحديث الحسن بين مجموع الرواة نسبة كبيرة عالية، وقد علمت بالاستقراء أن ابن معين قلما يستعمل في وصف هؤلاء أصحاب هذه المرتبة ما عدا كلمة (لا بأس به) من مصطلحاتها الأخرى المعروفة المستعملة عند سائر النقاد، فإذا قيل إن كلمة (لا بأس به) كان معناها عند ابن معين التوثيق المطلق أي انه يقولها في رواة الأحاديث الصحيحة لا الحسنة، فإنه يلزم من ذلك أن رواة الأحاديث الحسنة عند ابن معين نسبة نادرة الوجود أو أنه متساهل جداً في إطلاق التوثيق، أو أنه كان لا يفرق بين الصحيح والحسن، وكل واحد من هذه اللوازم الثلاثة فيه نظر، بل لا يصح، فلا يصح ما استلزمه.
والثاني: كان ابن معين يقرن أحياناً بين كلمة (ليس به بأس) وكلمة (يكتب حديثه) وظاهر أنه لا يحسن من أحد أن يقرن بين لفظتي (ثقة) و (يكتب حديثه) إلا إذا أراد بكلمة (ثقة) العدالة مجردة، وهذا نادر وهو خلاف الأصل؛ قال ابن عدي في (الكامل) (1/243): (حدثنا علي بن أحمد بن سليمان حدثنا أحمد بن سعد بن أبي مريم قال سمعت يحيى بن معين يقول: إبراهيم بن هارون ليس به بأس يكتب حديثه؛ وقول يحيى بن معين (يكتب حديثه) معناه أنه من جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم، ولم أر لإبراهيم بن هارون هذا عندي إلا الشيء اليسير فلم أذكره ها هنا).
تكميل: تقدم ذكر جواب دحيم لأبي زرعة الدمشقي، وقد قال السخاوي في (فتح المغيث) (1/367-367) بعد أن ذكر أن صنيع المحدثين رفع مرتبة ثقة فوق مرتبة لا بأس به: (ولو لم يكن صنيعهم كذلك ما سأل أبو زرعة، لكن جواب دحيم موافق لابن معين فكأنه اختياره أيضاً).
وأقول: يقال هنا نحو ما قيل في حق ابن معين في هذه القضية، ويزاد على ذلك أن دحيماً قد ثبت تساهله في توثيق الشاميين، وأكثر المتساهلين لا يفرقون في كثير من الأحايين بين راوي الحديث الصحيح وراوي الحديث الحسن، ولا بين الثقة والصدوق، فلعل دحيماً كان كذلك.
هذا الذي انتهى إليه تحقيقي في هذه المسألة، أعني معنى (لا بأس به) عند ابن معين؛ والموضع يحتمل مزيداً من البحث، والله أعلم.
ملتقي اهل الحديث
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق